العارف بالله
( قصة قصيرة )

بيت جدتي الأيل للسقوط كان شامخا حينها ، ملاصقاً لشريط السكة الحديد الانجليزي ، في ونس سيدي العارف بالله ، القضبان تجلجل وتصهلل من الفرحة لما يرجع خالي من السودان محملاً بزكائب الفول السوداني والكركديه الأسواني ، والبهارات الحارة بطعم الجنوب ، وكتبه المزينة بالحروف الانجليزي ، الآن أتذكر جيدا أن القضبان نفسها كانت تصدر صريرًا وعواءًا حين ماتت جدتي ابنة التسعين عاماً
دراويش العارف بالله ، السبح والمصاحف والبخور ، الأفاقين والنشالين ، خدام مدارس الأحد بياقاتهم المنشاة البيضاء في طريقهم لكنيسة الست العدرا ، قهوة جراند أوتيل ، العجائز بطرابيشهم الحمراء وهم يتبادلون رمي زهر النرد والنكات البذيئة ، فوق الطاولات البالية بفعل أجسادهم التي شاخت بفعل الانتظار ، السجن العمومي ، عساكر الأبراج وهم يتممون أعدادهم في وردية المساء ، واحد .... أتنين ... ثلاثة... ثم يتلاشي النطق الصحيح للأرقام  علي طريقة  إسماعيل يس في البحرية (بررلم ) أتراهم كانوا يفتعلونها حينها من باب الدعابات اليومية الساذجة كي ما يقتلون ليلة خدمة شاقة  في حراسة مساجين ليست لديهم القدرة أو الرغبة حتى في الهروب ، أم نكاية في الضابط التي يتمم عليهم ، كلها أشياء تحفر حاجه جواك كنت فاكر أنها عطنت ، الإحساس بالأمان .
الله..... حي
الله..... حي
الله..... حي
هؤلاء العالقين بين السماء والأرض أتراهم يعيدون اكتشاف إيقاعات أخري للروح؟
وقع أقدام الدكتور موريس الدقرم أستاذ المسالك البولية علي الكورنيش ساعة الغروب ، تستطيع أن تضبط معه ساعتك ، السادسة والربع مساءاً بالضبط ، يقطعه جيئة وذهاباً في مشية عسكرية منتظمة ، العسكري النظامي من المركز وهو يحشو البارود في مدفع رمضان العتيق ، يعيدك رغما عنك للعصر المملوكي المنصرم .

السلطان جاثم فوق أنفاسنا
ومكائد القلعة بحجم وطن
عم عزت بواب عمارة جدتي ، ومحمد أبنه نلهو معاً بجوار المدفع ولا نفترق إلا لحظة النوم ، حينها أدرك قسوة الفوارق ، هو ينام تحت في بير السلم وأنا فوق .
الست المنقبة بطول الكورنيش تضرب النساء الذين ليسوا علي شاكلتها بالطوب، أتذكر جيداً والدتي وأم محمد وهما راجعتين من سوق الأتنين ، محملتين بقوالب الجبنه القريش ، والحمام البلدي ، وأثار الطوب قد طالتهما هما الاثنتين ، ضحكت كثيرا حينها .
-         لو كنتي جبتيلي الحلاوة الجلاب ماكنتش هتقرب ليكم .
أضع المفتاح في الباب وأديره،  خيوط  العنكبوت تفاجئني في كل مكان ببيت جدتي أنفض  الغبار عن صورة جدتي  ، ثم الملم محتويات البيت ، وأغادر أسفاً علي أصوات دراويش العارف  وعساكر السجن التي لن تؤانسي مرات أخري .

                                                                                 
                                                                                   

عماد شكري سعدا لله

تعليقات